هنري ميشو... شعريّة الفعل | خمسة نصوص عن الفرنسيّة

هنري ميشو | Thierry Ehrmann

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

هنري ميشو، الشاعر الفرنسيّ ذو الأصول البلجيكيّة، أحد شعراء فرنسا الكبار في القرن العشرين (1984- 1899)، اختار منذ أعماله الأولى أسلوبًا نثريًّا لقصائده، متحرّرًا من أيّ شكل سابق، ومن إطار أيّ مدرسة أدبيّة، في فترة ازدحمت فيها المدارس والاتّجاهات الفنّيّة في الأدب والفنّ بداية القرن العشرين. وأكثر ما يميّز أسلوبه الشعريّ ابتكار مفردات جديدة وتوظيفها في قصائده، على أن يركّب هذه المفردات المستحدثة من خلال ضمّ مفردتين إلى بعضهما بعضًا بلا مراعاة لقواعد اللغة، وبلا حتّى أن يفهم القارئ ما تعنيه الكلمة، لكن الشاعر يعوّل في تعبيره عن معنى المفردة على الأصوات الّتي تُحدثها؛ إذ يفهم القارئ معناها إيماءً لا تصريحًا، ليندمج معناها في معنى القصيدة العامّ. وهذه الحرّيّة الّتي يتعامل فيها الشعراء الفرنسيّون مع اللغة، والشكل والأسلوب الشعريّ، تستمرّ حتّى اليوم، لنراها تتمثّل في أشكال كثيرة من الكتابات الشعريّة، كالشعر الأدائيّ والصوتيّ، والنصوص الشعريّة البصريّة... إلخ، رغم قلّة التجارب الشعريّة الأصيلة حاليًّا، الّتي ينتجها هذا الزخم من التنوّع في الأساليب والتجارب والأشكال الشعريّة، مع الإقرار بأهمّيّة هذا التحرّر في كتابة الشعر وتلقّيه.

المفردات المستحدثة في قصائد ميشو غالبًا تحفّز على الفعل (Action)؛ فقد ظلّ مسكونًا في شعره بفكرة الفعل والحركة، مبتكرًا ما أطلق عليه الباحثون في أدبه "La Poétique De L’action"، أي "شعريّة الفعل"؛ لذا تطبع قصائده أحيانًا أجواء من العنف، الّذي يعبّر عنه ويصفه ويستعير أجواءه ويوظّف مفرداته. وهذا يبدو جليًّا في بعض قصائد هذه المختارات من شعره، وهي جزء من مجموعته الشعريّة "اختبارات، طرد الأرواح الشرّيرة" الّتي كتب قصائدها بين 1940 و1944، أي خلال الحرب العالميّة الثانية، وقد صدرت في طبعتها الأولى عن منشورات "غالميار" عام 1946.

وفي المقدّمة الّتي استهلّ بها قصائد مجموعته، يوضّح ميشو: "أنّها ليست قصائد مكتوبة بدافع الكره لشيء، أو لأحد، لكنّها للتحرّر من أسر قبضة خانقة"؛ وهذا كما يرى يتحقّق من خلال "العنف الفاتن الّذي يتّحد مع طَرَقات الكلمات". ويُظهر أيضًا في قصائده توظيفًا للرموز اليهوديّة، كعادة بعض الكتّاب الأوروبّيّين الّذين تبرز هذه الإشارات في نصوصهم، جزءًا من تراث الثقافة المسيحيّة الأوروبّيّة من جهة، وجزءًا أيضًا من سياق الحرب العالميّة الثانية وأجوائها وملابساتها من جهة أخرى.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

اليد الضخمة عديمة الشكل

La grande main informe

يبدو لي غالبًا أنّني أرى يدًا ضخمةً عديمة الشكل تمرّ على الأشياء أمامي.

على الأشياء كما على النصب التذكاريّة، وعلى واجهات مبانٍ بارتفاع مئات الأقدام، وتبدو راغبةً في إحداث تلفٍ كبير.

لكنّها ليست أكثر من ملامسات. 

هذا ما تدفعني تجربةٌ قديمةٌ للتصريح به، مجرّد ملامسات، وخاليةٍ من أيّ رقّة.

وبدون كتلةٍ حقيقيّة؛ فلكي تكون ما تبدو عليه، لا بدّ أنّها عبرتْ ولا تزال تعبر جدرانًا سميكة، حجارتها لا تقوى على دفعةٍ واحدةٍ من هذه اليد، مع ذلك، لا ينتج عنها تلفٌ خاصٌّ على حدّ علمي.

لهذا السبب لا يقلقني الأمر أكثر من المهندسين المعماريّين الّذين، كما قيل لي، لا يشغلهم ذلك بتاتًا. 

 

 

حفرتُ في حياتي ممرًّا كبيرًا

J’i tracé dans ma vie un grand canal

من شدّة الآلام، والقفزات غير المجدية، ومن كثرة ما رفضني الخارج، الخارج الّذي وعدتُ نفسي أن أبلغه، من كثرة مشاويري في كلّ مكانٍ تقريبًا، حفرتُ في حياتي ممرًّا عميقًا.

أقع فيه أكثر ممّا أعثر عليه. إنّه الآن يحرّك مشاعري. استطاع أن يثير عاطفتي مع أنّه لا يضيئني أو يساعدني أو يرضيني. على خلاف ذلك، إنّه يذكّرني بالحدّ الحاسم الّذي عليّ ألّا أتجاوزه، إلّا في لحظاتٍ قليلة. أيضًا من خلال قوله الأثير "لا أعرف بالأمر"، يؤكّد لي باستمرار ما لم أطلبه يومًا، أنّني الوحيد الّذي يعرفني وأنّني رغم هذا لا أقدّر نفسي.

أهيم في الممرّ خفيةً.

 

 

المشي في النفق

الأغنية الثانية

La marche dans le tunnel

Chant deuxième

الأفكار كانت مثل حشد ماعزٍ تقف وجهًا لوجه. الكره كان يتّخذ هيئةً صحّيّة. أمّا الشيخوخة فكانت تثير الضحك، والطفل تمّ دفعه إلى العضّ، والعالم كان كلّه راية

قديمًا كان ثمّة رجالٌ يأخذون وقتهم، بإشعال الحطب في مدافئ قديمةٍ بسلام، قارئين رواياتٍ ممتعة؛ إذ مَنْ يعاني فيها هم الآخرون. هذا الزمن انقضى الآن، والأرائك تحترق في هذا الوقت، والسعادة المسيّجة لأغنياء هذا العالم لم تعد تدافع عن نفسها

الطقس باردٌ على الجميع هذه السنة، إنّه الشتاء الغامر الأوّل

الأمل أطرش على نحوٍ ما. الحدث لا يكترث، مثل همجيٍّ يمزّق الجلد والضمادة والأنبوب دفعةً واحدة، كان يجب البدء في المعاناة من جديدٍ وبلا أيّ أمل

بين مسافةٍ وأخرى كان يظهر لمعانٌ ما، لكن الموجة العميقة الّتي ستجرف كلّ شيءٍ لمّا تنهض بعد

شعوبٌ، كان بعضها ينتصر، وبعضها يتقهقر، لكنّ الجميع كان يبقى عالقًا ببؤسٍ يجوب أنحاء الأرض

أسلاف الحكمة لم يكونوا في منأًى عن ذلك

على حين غرّة، حارَبوا عامًا بعد آخر، صبرهم المزمن، خاضعٌ لاختبارٍ صعبٍ للغاية

الشعب المقدّر له، هو أيضًا، والأوّل، الّذي عانى، نزعنا عنه كلّ شيءٍ حتّى قميصه، وسخرنا منه، وبالمقابل، اتّهمناه أنّه سبب المصائب

شعب الهيكل الأمثل، صودرت منه حتّى أشجار زيتونه

الرؤوس كانت محشوّةً بالحماقات

كالبحر لا يتعب من الاصطدام بصخب الأمواج غير المجدية، كذلك فإنّ هذه المعركة الكبيرة تدفع صفوفًا جديدة للأمام

توغّلاتٍ متردّدةً لا تتقدّم في شيء، وانسحاباتٌ صاعقةٌ تنتهي أمام الفراغ

لم نشهد يومًا هذا الكمّ من ضربات السيوف في الماء

أرسان الإنسانيّة كانت تعوم بمحض الصدفة، لكن مع ذلك، وفي كلّ مكان، وخلف وجوهٍ متعدّدة... الأب، الرئيس، يغرس حياته المتسلّطة، مثل مجداف، في عائلته الخنوعة.   

 

 

أقنعة الفراغ

Les masques du vide

غالبًا ما تظهر لي، عند انسحابي عن نفسي، أقنعة الفراغ، الأقنعة الّتي يكتسيها الفراغ ليست ممتلئة، وهو ليس في حاجةٍ إليها.

لكن بعض الملامح الضعيفة تحرص على إخفائه، وهي تقوى على ذلك. إنّه بالتأكيد هنا، ونكاد ننسى وجوده... هذه الأقنعة تظهر عادةً اثنين اثنين، وتطبع أثرًا، وهي هشّةٌ لكنّها صلبة، في حلقة الكون المكتملة الخلق.

ولنا أن نعتقد أنّها حركات، حركاتٌ محنّطة، محسوبةٌ بدقّة الجَبْر، من كارثة بركان بومبي، لكن بلا أيّ أثرٍ لكارثة. بالعكس، كان هناك جمودٌ غريب، وفي كلّ مكان، في طيف القوّة ذاتها، كان الابتلاع المرعب للفراغ.

هناك أيضًا صحارى الصباح، الّتي تحتشد بحيواناتٍ ميّتة.

 

 

الحياة المزدوجة

La vie double

تركتُ عدوّي يكبر داخلي.

وفي الأشياء الّتي وجدتُ ذهني محتشدًا بها، في سفراتي، أيّام دراستي، وحياتي، عشتُ كثيرًا ما لم يكن صالحًا لي.

بعد سنواتٍ وسنوات، ما زلتُ أعيش هذا مهما فعلتُ أو تعمّقت، وسيبقى في ذلك الكثير من الأشياء غير المجدية، غير الصالحة، ولكن!

 كنتُ منزعجًا، ولستُ متأثّرًا بأيّ حالٍ من الأحوال. ثمّ لم أدرك أنّ هناك خطواتٍ يجب اتّخاذها، بل تركتُ الموادّ غير المستخدمة ورائي، ببراءة، كما وجدتها.

أنا، مثل كلّ الكائنات في العالم، استخدمتُ ما بقي، للأفضل.

لكن شيئًا فشيئًا، شيّدتُ على هذه الأنقاض الّتي دائمًا ما تكون من عائلةٍ واحدة (لأنّني دائمًا أُخيَّر الأشياء الّتي من نفس النوع)، فتشكّل وتضخّم شيئًا فشيئًا، كائنٌ مزعجٌ في داخلي.

في البداية، كان ربّما مثل أيّ كائن، تصنع الطبيعة الكثير منه في هذا العالم. لكن بعد ذلك، وبعد النهوض على ركامٍ مضاعفٍ لموادّ معادية للبناء المعماريّ لكياني، أصبح عدوّي في كلّ شيء تقريبًا، ومسلّحًا بي أكثر وأكثر. لقد غذّيتُ عدوًّا داخلي كان دائمًا أقوى، وكلّما أبعدتُ عن نفسي كلّ ما كان نقيضًا لي، اكتسب منّي قوّةً ودعمًا وغذاءً لليوم التالي.

هكذا يكبر في جسدي، على غفلةٍ منّي، عدوٌّ لي أقوى منّي.

لكن ما العمل؟ إنّه يعرف أن يتبعني الآن في كلّ مكان، ويعرف أين يجد ما يغتني به، بينما خوفي من إفقار نفسي لأجله يجعلني أضمّ عناصر مشكوكًا فيها أو سيّئة، لا تفيدني بشيءٍ وتتركني عالقًا على حدود عالمي، وتجعلني عرضةً أكثر للضربات الغادرة من عدوّي، الّذي يعرفني كما لم يعرف أحدٌ عدوّه من قبل.

أنظر إلى الحال الّتي وصلت إليها الأشياء، هذه الأشياء المحزنة ستعيش من الآن فصاعدًا انشقاقَ حياةٍ مزدوجةٍ لعدم ملاحظتي إيّاها في الوقت المناسب.

 

 

أنس العيلة

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.